الجامع الأموي في حلب عنوان الصمود عبر العصور
شهد طيلة تاريخه عمليات تخريب وتدمير وإحراق

الجامع الأموي في حلب الشهباء:-
إن الآثار التاريخية تبقى مهما جار عليها الأعداء ومهما تعرضت للمصائب والمحن، فهي التي تحكي قصص الزمان والأمجاد، وتروي حكايات أجدادنا الأبطال، وكلما كان الأثر أكثر قيمةً وأهميةً تعرض له العدو من كل صوبٍ وحدب، ومع ذلك فقد يفقد بعضاً من أجزائه ولكنه يحافظ على أساسه وكأنه أقسم على البقاء مهما حدث، ومن هذه الآثار التي تعرضت للكثير من الخطوب عبر التاريخ، الجامع الأموي في حلب، فما قصته ومتى بُني وكيف بقي صامداً؟ سنتعرف عليه أكثر معاً.
تاريخ بناء الجامع الأموي في حلب الشهباء:-
تم إنشاء الجامع الأموي في حلب خلال الأعوام 92-99هـ/ 710-716م، وعلى الأغلب أن الوليد بن عبد الملك هو الذي قد بدأ في بنائه في حياته، حيث حكم من 705م حتى 715م، ليكمله من بعده أخيه سليمان بن عبد الملك، والذي لم تكن خلافته طويلة من 97 حتى 99هـ/ 715 حتى 717م، وقد أراد الخليفة الأموي سليمان أن يضاهي في بنائه الجامع الأموي الكبير في دمشق والذي أنشأه أخوه الوليد.

تعرض الجامع الأموي في حلب للكثير من الحرائق والتدمير خلال السنين، بدأت بنقب حجارته ورسومه في بداية الخلافة العباسية، حيث نُقلت إلى جامع الأنبار في العراق ولذلك كان من المستحيل معرفة وضع الجامع عند بنائه، وفي عام 926م تعرض لحريقٍ من إمبراطور الروم نقفور فوكاس، ليصلحه الأمير أبو المعلي سعد الدولة، ولكن بعدها تعرض لحريقٍ كبيرٍ آخر في عام 1196م، فقام الملك العادل نور الدين زنكي بترميمه وزيادة مساحته، وحصل الجامع على اهتمامٍ كبير وخاص من قبل المماليك الذين عينوا له شخصاً لحراسته طوال اليوم، هكذا وبعد المصائب القديمة فإن ما نراه أمامنا من وضع المسجد يعود إلى عصر المماليك عدا مئذنته، وبالأخص الملك الظاهر بيبرس، والسلطان قلاوون وابنه الناصر محمد.

لعل المصائب الحديثة التي طالت المسجد الأموي في حلب هي في الحرب الأخيرة التي وقعت، فطالت مئذنته ودمرتها، مع اشتعال حريقٍ كبير سبب أضراراً واسعة وصلت إلى المكتبة الوقفية في الجامع والتي تضم مئات المخطوطات والكتب النادرة.
موقع الجامع الأموي في حلب وتصميم البناء:-
يقع الجامع الأموي في قلب مدينة حلب القديمة في حي الجلوم، وله موقع مركزي مميز، حيث يقع إلى الشمال من المحور الرئيسي للسوق المغطى التاريخي، وقد بُني الجامع على حديقة كنيسةٍ سابقة كانت قد بُنيت من والدة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين وتدعى هيلانة، والكنيسة الآن معروفة بالمدرسة الحلوية.

يحيط السوق المركزي بالجامع الأموي من أطرافه الثلاثة، حيث يقع المدخل المؤدي لسوق الحبال في قبلية الجامع، وينفتح الباب الشرقي على سوق إسطنبول الجديد، والمدخل الغربي ينفتح من باحة الجامع على سوق المسامرية وهو مقابل للمدرسة الحلوية، وأما الباب الشمالي فهو يؤدي إلى الحديقة الخارجية والتي تضم موقع المكتبة الوقفية الجديد منذ عام 2006 في الجزء تحت الأرضي منها.
تبلغ مساحة الأرض التي بُني عليها الجامع الأموي 105 أمتار من الشرق إلى الغرب، وأما العرض؛ فيصل إلى 77,75 متراً من الجنوب إلى الشمال، وفي الحقيقة فقد تشابه بشكلٍ كبير مع مخطط وطراز الجامع الأموي في دمشق.
يتألف الجامع الأموي في حلب من صحنٍ واسع يتميز ببلاطه الرخامي باللونين الأسود والأصفر مع تشكيلاتٍ هندسية رائعة تعود إلى العصر العثماني وقد تم تجديدها مؤخراً، وتحيط به ثلاثة أروقةٍ مع حرمٍ في الجهة القبلية، وتنفتح عليه من الجانبين عشرة عقود، ومن الشمال ستة عشر عقداً ومن الجنوب مثلها تعود إلى الحرم، تم إغلاقها بأبواب خشبية، ويقع المدخل الكبير وسطها ويصل إلى الجناح الأوسط الذي يمتد حتى المحراب الكبير، وتتميز هذه العقود النصف دائرية بكونها تنهض على عضاداتٍ مستطيلة لا على أعمدة، ويقع في وسط الصحن ميضأة حديثة ومغطاة بقبة، والقبة الأخرى هي لحماية الساعة الشمسية.

يتميز الحرم بسقفه الذي تحمله عضادات مشابهة لتلك التي في الصحن، وتحمل أقواساً متصالبة، شكلها كعقدٍ في ثمانية أجنحة عرضية توازي جدار القبلة في جنوب الحرم، ويمكن رؤية قبة صغيرة تغطي منطقة المحراب وهي أعلى الجناح المتوسط، وفي الحرم سدةٌ خشبية مزخرفة بألوانٍ مختلفة مع كتابةٍ تدل على العصر التي بُنيت به “قره سنقر” كافل حلب.
يضم الجامع الأموي المئذنة التي دُمرت حديثاً وهي ليست بالمئذنة الأساسية، بل هي مئذنة جديدة تم بناؤها على عدة مراحل منذ عام 472هـ في عهد الأمير سابق بن محمود بن مرداس، وحتى عهد السلطان تتش بن ألب أرسلان، يبلغ طول ضلعها 4,95م، وأما ارتفاعها فيصل إلى 45م حتى الشرفة، وهي مربعة المسقط.
ويحتوي الجامع أيضاً على بيت الصلاة، وحجرة الخطيب، والمنبر، والمحاريب، والأروقة، والحجرة النبوية، ويُقال بأنه ضريح يحوي قبر النبي زكريا، تم إنشاؤه عام 907هـ /1500م، ولذلك يُسمى الجامع باسم جامع زكريا أيضاً، ويضم مصاحف شريفة لكبار الخطاطين السوريين والأتراك، مع قناديل قديمة مذهبة ومفضضة وقواعد شمعدان، وأما الحجرة الحجازية فهي خاصة للنساء لتأدية الصلاة، وكانت منزلاً لأهل الحجاز ولذلك سُميت بالحجازية.

الجامع الأموي في حلب في الوقت الحالي:-
كانت آخر عملية تجديد قبل الحرب في عام 2003م عندما تم تجديد صحن الجامع ومئذنته، واليوم تجري أعمال الترميم لإصلاح ما تضرر من الجامع جراء الحريق والتدمير.

حلب عند ابن جبير:-
تناول الرحَّالة الشهير ابن جبير الأندلسي (توفي 1214 م) ، مدينة حلب بتوسُّع في كتابه “رحلة ابن جبير”، وفيما يلي بعضاً مما قاله:
بلدة قدرها خطير، وذِكرُها في كُلِّ زمان يطير، خُطَّابها من المُلوك كثير، ومَحلّها من التقديس أثير، فكَم هاجت من كفاح، وسُلَّت عليها من بيض الصِّفاح؟.
وأما البلد فموضوعه ضخم جداً، حفيل التركيب، بديع الحُسن، واسِعُ الأسواق كبيرها، مُتصلة الانتظام مُستطيلة، تخرج من سماط (جانب الطريق) صنعةٍ إلى سماط صنعة أخرى إلى أن تفرَغ من جميع الصناعات المدنية، وكلّها مسقَّفٌ بالخشب، فسُكَّانها في ظلالٍ وارفة، فكل سوقٍ منها تقيِّد الأبصار حُسناً وتستوقف المستوفِز (المتوثِّب) تعجُّباً.
لها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشَّبه والنَّظير في القلاع، تنزَّهت حصانةً أن تُرام أو تستطاع، قاعدة ٌ كبيرةٌ، ومائدةٌ من الأرض مستديرة، منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، فسُبحانَ من أحكَمَ تقديرها وتدبيرها، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، عتيقةٌ في الأزل، حديثةٌ وإن لم تزل، قد طاولت الأيَّام والأعوام، وشيَّعت الخواض والعوام، هذه منازلها وديارها…

الجامع عند ابن جبير:-
وهذا الجامِعُ من أحسَنِ الجوامعِ وأجملَها، قد طافَ بصحنهِ الواسِعِ بلاطٌ مُتسِع مفتَّح كله أبواباً قصرية الحُسن إلى الصَّحن، عددُها ينيف على الخمسين باباً، فيستوقف الأبصارَ حُسنَ مَنظرها، وفي صحنهِ بئران مَعينان، والبلاطُ القِبلي لا مقصورةَ فيه، فجاءَ ظاهِرَ الاتساع رائقُ الانشراح.
وقد استفرغَت الصنعةُ القرنصية جهدَها في منبره، فما أرى في بلدٍ من البلادِ مِنبراً على شكلهِ وغرابةِ صَنعته، واتصلت الصنعةُ الخشبية منه إلى المحارب، فتجلَّلت صفحاته كلّها حُسناً على تلك الصِفة الغَريبة، وارتفع كالتَّاج العظيم على المحِراب وعلا حتى اتَّصل بِسَمك السَّقف، وقد قوِّسَ أعلاه وشُرِّفَ بالشُّرَف الخَشَبية القرنصية، وهوَ مُرصَّع كُله بالعاجِ والأبنوس، واتصال الترصيعِ من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدارِ القِبلة دون أن يُتبيَّن بينهما انفصال، فتجتلي العيونُ منه أبدعَ منظرٍ يكونُ في الدنيا، وحُسنُ هذا الجامع أكثر مِن أن يوصَف.
المصادر:-
رحلة ابن جبير، دار صادر، بيروت.
https://lisa.gerda-henkel-stiftung.de/beitrag?nav_id=7837&publication=1
https://cdn.loc.gov/service/pnp/matpc/07100/07185v.jpg